قبل أيام، توفي من كان يرعاني كل يوم، ويقف بجانبي في كل أزمة، ويسأل عني في كل مجلس، فحملته عاليا وأخذته بعيدا وحفرت له عميقا وتركته وحيدا فشعرت باليتم وأنا كبير
حينما كنت صبياً صغيرا أخرج عن حدود الأدب ، كان أبي يُؤدبني ، وبعدها يسألني هل تسامحني ؟ولأني صغير لذلك لم أفهم مقصده وظننتها أحجية , وفي يوم من الأيام أخذني أبي بسيارته من المدرسة وعند باب بيتنا أخرجت قطعة الحلوى التي خبأتها في حقيبتي لآكلها , فأخذها أبي من يدي وأعطاها عامل النظافة الذي ينظر إليها بشغف فلم أعلم مقصوده وظننتها أحجية، وحين صرت شابا يافعاً لم أجد تبريرا لفرط طيبه مع يسيء إليه ، فبائعه الذي طمع وزاد عليه السعر قال له أبي : كم تريد زيادة لترضى ثم أعطاه ، وحين سألته كيف تقبل بأن يرفع عليك السعر؟ قال رحمه الله : " لحية المغلوب بالجنة " ولأنني كنت حينها قد كبرت سألته عنها فقال : يابني : كن مغلوباً ولا تكن غالبا , فالدنيا ليست بأمر يحرص عليه العاقل .
ومع مرور الأيام علمت أن أبي يخفي في أحجياته حكمته ففطنت لها ، وفي أحد المناسبات التي تغيب عنا أشخاص دعيناهم , سمعته يقول لنا " الكل مشغول والكل معذور " واليوم علمت منها سر صفاء صدره وطيب نفسه ودوام ابتهاجه
قبل أكثر من شهر اشتد مرضه , ودخلت حجرته التي تملؤها الكتب محاولا إقناعه بعملية جراحية , فحدثني حديث المفارق لي - وقد كتبت هذا المقال بعد ذلك الحوارلإحساسي برحيله - حدثني حديث الملاقي لربه ، يقول لي و في مريئه ورمٌ لا يرجى شفاؤه ، يمنع لقماته ويخنق أنفاسه ويسرق صوته : أنا في نعيم لا يعلم فيه الا الله ، أبهرتني كلماته ففقدت كلماتي لأعلّق ، وحاصرتني مشاعري فلم أجد ما أقول ، فاكتفيت بأن تبسمت ، وسألني مالك تتبسم فقلت له : أنت في مرض وضعف وهزال وتقول أنا في نعمة لا يعلمها أحد ! . نظر إلي متأنيا وقال لي : لولا أن أفضح نفسي لتكلمت ، خنقتني عبرتي ، لكني علمت إنه لديه ما يود الحديث عنه ، فضبطت مشاعري وضغطت على ألفاظي وقلت له مستحثا : اما بنعمة ربك فحدث !
طأطأ رأسه وقال ونعما بالله ، ثم قال بصوت أجش متقطّع ( بسبب مرضه ) لقد عشت خالي من الهموم سنين طويلة ، هل في هذه الدنيا أكبر من هذه النعمة ؟ ولقد أعطاني الله كل شي طلبته وكل شي لم أطلبه ، لم أكن أتصور أن ابلغ عمري هذا دون أن احتاج أحد ودون سؤال أحد ( لم يكن رحمه الله يسأل الناس حاجة قط ولا حتى أولاده ) ، حدثني وعيونه تتلألأ شوقاً لربه ، وقلبه الضعيف يخفق رغبة بلقاءة ، لم يكترث بمرضه أو بتدهور صحته فهو غنيمة كبيرة لتكفير خطاياه التي لا يمكن لمثلي أن يراها، حدثته عن مرضه وأنا أراه حفرة أخاف عليه أن يقع فيها و حدثني عن مرضه وهو يراه عتبة يرقاها لترتفع يده وتتمكن من طرق باب ربه الكريم ليفتح له باب رحمته، حدثته لإجراء عملية جراحية وقلبي يتقطع على صحته وضعف جسده وحدثني حديث من لا يكترث لجسده ويظنه ثوب كلما اهترء كلما قرب استبداله .
أصررت عليه كثيرا ,,, وبعد إلحاحي ,,, أطرق قليلا في لحظة صمت وقال لي : عبدالله ، مم تخشى علي ؟ أبهرني سؤاله ولم أستطع أن أذكر الإجابة ففاجأني بقوله :هل هناك أكثر من الموت ؟
Comments