top of page
بحث

إحسب قيمتك؟


خرجت من منزلي منزعجاً لأمرٍ ألم بي، و دخلت مؤسسة قبل إغلاقها بنصف ساعة لإنجاز معاملات، حييت الموظف وابتسمت وجلست، رد الابتسامة والتحية ، وبعد إيضاح معاملتي الاولي ، اقترح قائلا: إن رسوم خدمتنا عالية ، فقلت أنا أرغب أن أتمّها هنا ، فشرع بإتمامها ثم تطلب إنجازها بعض البيانات الناقصة ، فعرضت المعاملة الثانية فقال ان مؤسستنا مكلفه كما أنك تحتاج بعض البيانات ، لو ذهبت خارجاً أرخص لك، عاد انزعاجي السابق إلي، و ظننت انه يريد تصريفي لينهي عمله ، وينصرف الى بيته ، فقلت ببعض العدوانية ، يبدوا انك "تزحلقني" ليذهب اخر مراجع في هذا اليوم وينتهي عملك! فقال بهدوء وثقة انا اريد حماية مصالحك ، رددت عليه : يتوجب عليك حماية مصالح من يدفع راتبك، ان ما تفعله غير مقبول ، وبهدوء لا يناسب صغر سنّه ابتسم ، ثم قال انا اعتذر وكلامك صحيح وقام ينهي ما تبقى من معاملات، أعجبتني لباقته وسعة صدره ودماثة اخلاقه، فقلت له أتقبل النصيحة ؟ قال نعم وبكل سرور ، قلت لم حاولت تصريفي؟ قال : لم أكن أريد تصريفك ولكني تفرست في وجهك وأعجبتني هيئتك وأردت ان أتودد اليك بان أرشدك لما ينفعك لكني أريد سماع نصيحتك ، قلت له الانسان نجّار أفكاره ، يقطع هذه الفكرة ثم يصنفرها ويلمعها ويوصل هاتين الفكرتين ليبني بيتا سعيداً من أفكاره ، وهو من خشب هو من صنعه ليعيش فيه ، ثم يحسب انه البيت السعيد الوحيد ، لكن بكل تأكيد هو بيوت أسعد منه، إن اغلب الناس تجد المتعة في الانتهاء من العمل وهذا من الافكار التي ننجرها ولا نفحصها جيداً ، ومن يفعل ذلك ، يبقى ينتظر نهاية الحدث، وهذا الاسلوب يحولنا الي فأر سباق ( من كتاب happier للمؤلف Tal Ben-Shahar) وهذا الفأر لا يستمتع بالرحلة وإنما يعيش فكرة نهاية الرحلة ليأكل الجائزة وكذلك الكثير من البشر ، يعمل بهدف أن ينتهي العمل ، ثم يعيش الاسبوع بهدف نهاية الاسبوع ، ثم يكدح طوال السنة ليحصل على إجازة فكلما وصل الي نهاية أمر وجد ان هناك هدفا اخر يركض له وأكلاً أخر يتذوقه ، وبالرغم من أن طريقة فأر السباق فيها بعض الإثارة ، الا إن هناك طريقة أفضل وبيت خشبي أسعد ، وهو أن يستمتع الانسان بالرحلة ثم يستمتع بالوجهة وهذه نصيحتي لك " ان تتمتع بالإتقان كما تتمتع بالانتهاء" .

لم يكن يدفعني للاستمرار سوى روعة إصغائه ، وصدق حديثه ، وحين لم أجد إشارة منه تفيد ثقل كلامي عليه ، أكملت قائلا له أتعلم ما الذي يجعلنا نتمتع بالانتهاء من العمل وليس في العمل ؟ فنظر إلي يفكّر ، لم أنتظر إجابته فقلت :انها القيمة ، اننا نصنع في عقولنا بيوتنا الخشبية التي نبنيها من أفكارنا وتصوراتنا ونجعل فيها قياسات الغرف حسب رغباتنا ،فنجعل قيمة كبيرة للانتهاء من العمل ( كأن نصنع حجرة كبيرة نرتاح فيها ) بينما نصنع قيمة أقل لإتقان العمل - ويعود سبب جعلنا قيمة أقل للإتقان (وهذه النقطة أبينها للقارئ فقط لأني لم أشرحها له في حينها) يعود الى مراحلنا الأولى ، ففي طفولتنا لم نكن نفكّر في قراراتنا بعمق ، وعند النضج يستمر الكثير منّا في طفولة التفكير من سرعة اتخاذ القرار واستعجال الجوائز وبراءة الطفولة التي لا تحسب العواقب ، ولا نحاول أن نقول توقفي يا نفسي ، وفكّري بعمق أكثر - ثم أكملت الحديث وقلت نحن نستطيع ان نصنع المتعة في العمل والاتقان لكن الامر لن ينجح من اول مرّه ، يتوجب أن ننظر الى الاتقان أنه هو الهدف وليس الانتهاء هو الهدف ويكون ذلك بطريقة التفكير بعمق ، بأن نحسب فوائد الإتقان ، وثمرة الاخلاص بالعمل ، ونربطها بقيمتنا وصلاحنا وقدرنا وهذا الربط هو مفتاح التحوّل ، فكما يقول علي بن أبي طالب " قيمة المرء ما يحسن " وكلما أديت الخدمة تذكر قيمتك وقدرك وأنها ستتأثر ثم حاول أن ترفع مستوي الخدمة للمستوى الذي ترتضيه قدر ما تستطيع وعندما تنتهي من عملك راجع نفسك وحاسبها ان كانت تستطيع تقديم الافضل ، ومع التكرار سيأتي يوم تجد انك تذهب الي الاسترخاء ولا تجد فيه راحة ، لشعور أنك لم تتقن العمل كما يجب ، وهذا هو البيت الخشبي الأسعد و الراحة الحقيقة هي في السقف الأعلى للإتقان لا الهروب من العمل .

نظرت الي الساعة , فوجدت موعد اغلاق المؤسسة قد انتهي من نصف ساعة ، الا ان تعطشه للسماع قد حرك قريحتي وشفتي فلم أتوقف ، اعتذرت منه على ما بدر مني واستلمت المعاملة المنجزة ثم انصرفت ، وكما تقول العرب "قل لمن لا يخلص لا تتعب ".

مشاهدتان (٢)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

المثلث

Kommentare


bottom of page