مضى عامان على مفارقة أبي لي، ومنذ وفاته وصورته اللطيفة لا تفارقني، وكأنني كنت بعيداً عنه، وبعد وفاته بدأت طائرتي بالهبوط التدريجي نحوه، وكلّما مرت الأيام، اقتربت منه أكثر، وتبيّن لي أنني لم أكن أرى عظمته وارتفاعه بسبب بعدي، وكلّما اقتربت طائرتي منه عظم في عيني وقلبي.
رغم طيب طبعه وحسن معشره ورغبة الكثير في التقرب منه، فانه ترك أغلب الأصحاب، ليصاحب مصحفه ويصادق قرآنه، يأنس بمعشره، ويُصغي لحديث ربّه، ويشتاقه إن ابتعد عنه.
ما أزال أتذكر دخولي عليه وهو رافعُ صوته بالقرآن يترنّم بآيات ربّه، أجلس إلى جانبه، فكنت أريد أن أسأله عن أحواله، فيكمل صفحته، ثم يلتفت إلي يحدّثني، ذات مرة جلست بجانبه فتوقف عند آية، ثم نظر إلي وقال: انظر يا عبدالله، الله يخاطبنا، الله يتودد لنا، يقول لنا: «يا عبادي» ثم تغرق عيناه بدموع الفرح بخطاب ربّه، ويكمل قراءته ويعود إلى دفتي مصحفه اللتين يحيا أغلب أوقاته بينهما، وكنت حينها أتساءل عن معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي»، لكن أبي فسّره لي دون أن يتحدّث.
حينما نجلس معه نستمع إلى الأخبار، كان يأتي-رحمه الله- بالكرسي ويضعه أمام رقاب وصدور المذيعات ليسترهن، وحين تتراجع كاميرا التصوير في وضعية الـ«زووم أوت»، ويتغير مكانهن من التلفاز، كان يقوم من مكانه ليصحح موضع الكرسي أو يضع علبة المحارم ليستر رقابهن اللاتي ارتفعت أماكنهن في التلفاز للأعلى أو انخفضت.
وجدني يوما أبي مهموما، فقال لي ما بك؟ فأخبرته عن خلاف بيني وبين شخص على مبلغ من المال ليس له حق به، لكنّ الأمر تطوّر واشتدت الخصومة، حينها قال: يا بني الخلاف الذي تصلحه الأموال هو أمر سهل، لا تتردد في دفع المال، المشكلة الكبيرة هي في الأمر الذي لا يصلحه المال.
في رمضان، لا يزيد على تمرات ثلاث يذهب بعدها للمسجد، ليدرك صلاة السنة ويحظى بالصف الاول، ويعود بعدها لحسائه المفضّل ليجده بارداً، فالصلاة أحب إليه، وحينما أتيت يوما لأفطر معه ودخلت متأخراً بعد الأذان، وجدته مستعجلاً عند الباب مغادراً للمسجد، فقبّلت رأسه وقلت له ما كان يقوله لي في صغري ممازحاً: «إن العجلة من الشيطان» فأجابني مؤدباً وهو يخطو للمسجد: «وعجلت اليك رب لترضى».
Comments