كم مهاجراً إلى الاصحاب غدا في بلده غريباً من الاغراب، وكم محتاجاً للخلان لايجد من يشكو له، فأثقلت ظهره الايام والليالي بالهموم و ضاق به الحال فلم يجد أحدا يفك له أثقاله وينزل عنه أحماله، اعتزل الناس خوفاً من أذاهم لكنه هرب من مشكلة الى مشاكل، ومن أذى الناس الى أذى نفسه، لم يشارك أصحابه حياته، فشاركته الهموم صدره، ترك أذى الناس لكنه أسكن الأذى أفكاره، فتراه يعادي من يجالسه ويزعج أهله ويؤذي جيرانه، لكن لسان حاله يقول: أحبوني، اهتموا بي، لم لا تكترثون بي؟ فهو لا يشبع حاجة ماسٌة لديه وضعها الله في قلبه وعقله، إنه يحتاج من يحبه ويحترمه ويوجهه.
أعجبتني دراسة مشوِّقه وجميلة حول تعرُّض مجموعة من المراهقين لأذي نفسي شديد لفترة طولة بسبب اضطهاد وضغط نفسي وتجاهل... الا أن فئة منهم لم تصبها ذات الامراض النفسية التي أصابت غيرهم، كالكآبة والقلق بالرغم من أنهم تعرّضوا لذات الاذى فقد ذكر الدكتور Daniel j. siegel صاحب كتاب «mindsight « أن الدراسة ركّزت على من لم يصب منهم، فقد كان لديه شخص يشاركه لحظاته العصيبة ويعينه ويعضّد له، فهجر الأصحاب ليس علاجا لمشكلة أذى الناس وإنما هومفتاح لمشاكل نفسية كثيرة.
إن أفقر الناس هو من يعرف الكثير ولا يجد الصديق، يقول صلى الله عليه وسلم «الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة»، أي أنك تجد الكثير من الابل لكنك تعجز أن تجد لك منهم راحلة تحملك وتريحك، وأفضل الاصحاب من تطفئ عقلك الواعي معه وتتحول الى عقلك اللاواعي، لا تحسب للقول والفعل حساب، كأنك تخلو بنفسك، فتعبّر عن مشاعرك بتلقائية، وتتحدث عن ما يزعجك بانسيابية، لاتجد منه انتقاداً حول إسلوبك فهو قابلٌ بك بلا تحفظات، ومطلقٌ لك العنان لتقول ما تشاء ومرخٍ حبال قاربك لتبحر حيث شئت، إن ضايقك هم، اغرورقت عيناه، وان أفرحك أمر علت ضحكاته، علّمني الاستاذ فيصل عايد الفايز أن الصديق هو من أضع يدي في جيبه وهو مسرور، وإن كان فارغا من المال، اقترض ليعطيني.
إن البحث عن الاصحاب أمرٌ عسير، وغالبية الناس تصاحب من تلقاه لزمان ومكان اجتمعوا فيه من دون عناء البحث، وتنسى أن الصحبة هي بذرةٌ نبذرها مرّة ونسقيها مليون مرّة، فتخيّر بذرك، فانك ساقيه كل يوم، واحذر أن تبذر لشجر غير مثمر فإن البذور تتشابه، وتحاشى بذر الشوك، فكلما سقيته قوي شوكه، وكبر جرحه.
ولربما يتجرأ عليك صاحبك، ويخطئ بحقك ليس تحقيراً لك إنما ثقة بمنزلته عندك، وربما يكون الخطأ كبيرا لا يمكن لاحدٍ أن يتجرأ به عليك، فننسى الوفاء ونستحضر الخصومة وتذكّر أن تضع خصامك في ميزان ذي كفتين، كفة تزن بها السنوات التي قضيتها وكفة تضع بها الايام التي تخاصمت بها لتحكم بالعدل على صداقة طويلة.
إن الحاصل على الصديق هو من لا يكل ولا يمل بحثه، يتقرّب من الكثير، ويراقب الكثير ويخالط الكثير، ليحظى بالقليل النادر، «فلا كل من تهاه يهواك قلبه، ولا كل من صافيته لك قد صفا» و«إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة، فلا خير في خل يجيء تكلفا»، لكن الكثير منّا يُختار ولا يَختار ويظن أنه بلا بحث سيطرق الصديق بابه طالباً صحبته، وقد تمنعه عزة النفس أن يخطب صحبة أحد، أو قد يحول الحياء من التقرب ممن ظهر حسن خلقه، واحتُمل طيب سريرته، يقول الفاروق لولا إخوة يتخيرون أطايب الكلام كما يتخيرون أطايب الثمر لما أحببت البقاء، ونعود الى شعر الشافعي الذي أوردناه ونختم به «سلامٌ على الدنيا اذا لم يكن بها، صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا».
Comments