حين تركب القطار بين مدينة ميلان الإيطالية ومدينة ولوزرن السويسرية ستعلم أن القطار يتوقّف عن مالايقل عن ١٥ محطة، في المسافة التي تتجاوز ال 300 كيلو متر، فبين تلك المدينتين تقبع سلاسل جبال الألب التي تتناثر بها القرى وتقف عندها القطارات.
بحثت عن قطار يحملني أنا ومرافقي بين تلكما المدينتين دون عناء حمل أمتعتنا وتغيير قطاراتنا، وبعد البحث، حصلت على قطار يربط المدينتين دون توقف ، لكن هذا القطار لا يتكرر إلا مرة أو مرتين في الأسبوع ، و لفرحتي باكتشاف مطلوبي ، أعدت ترتيب سفرتي لأحظى به ، وبعد أن وضعنا أمتعتنا وانطلقت رحلة الخمس الساعات ، بدأت علامات الضجر تتوالى على قسمات مرافقي، فهذا القطار ليس فيه مكان لغير المدخنين ، وليس فيه محطة يتوقّف فيها !.
تجاهل مرافقي القطار المريح جداً، والمناظر الخلابة ، والجو الخريفي البديع ومصبّات مياه الثلوج وهي تسيل من رؤوس الجبال، تجاهل البجع والأوز والبط الذي يتطاير من بحيرات تلك الجبال ، ليطأطأ رأسه منزعجاً من حرمانه سيجارته ، فألقيت نظرة متأملة في حاله و تأملت ما تفعل به سيجارته ، فوجدت مشاعره كمشاعر مسجون ينظر من نافذة زنزانته ، وتساءلت عن قدرة هذه السيجارة على إيذاء مشاعره ورئتيه بتلك الرحلة وفي رحلة حياته .
شخصياً وجدت المدخنين يسحبون كرسياً لسيجاراتهم في أغلب مناسباتهم ، فهذا حزن يشكونه لها ، وهذه مناسبة احتفالية والسيجارة أول المدعويين، وهذا موضوع مدهش وليست سوى السيجارة تجعل الإندهاش يبلغ منتهاه ، وهذا موضوع شائك وبانتظار السيجارة لجعله سهل ومفهوم ، فهل فهموا ؟!
قام الباحثين بسؤال المدخنين هل أنتم مقتنعون أن الأمراض تصيب المدخنين؟ والغريب أن غالبيتهم اعتقدوا أنهم الأمراض تصيب المدخنين ، والأغرب أن الباحثين وجدوهم لا يظنون بإصابتهم بل يظنون أن المرض سيصيب سواهم من المدخنين !!.
أصاب صديقي إلتهاب الشعب الهوائية، وبالنظر لصورة رئتيه وجدت السواد يملئ شعبها الهوائية وذلك بعد تركه للتدخين ب ١٣ سنة، والمثل قديما يقول لا تخرج فضلاتك في إنائك الذي تأكل فيه، فليتذكّر كل مدخّن أنه يحتاج رئته ليتنفس أيضاً.
كان التدخين مسموحاً في ديوانيتنا سابقا، وقام (غير المدخّنين ) بإحضار أجهزة شفط الدخان ، ووزعوها على الزوايا لكنّها كانت تحدث ضجّة وصخب، جلس صديقي بجانب الشفّاط وأشعل سيجارته ، لكنه شدة صوت الشفّاط أزعجه، فقام أطفئه ، فالتفت له وأخبرته عن أضرار التدخين ، ودخلت معه في جدال وقلت له : ياأخي أنا غير مدخّن، ألا تخاف على رئتي؟ فقهقه ضاحكاً وقال لي ممازحا ، هل تتوقّع من شخص لا يهتمُّ برئته الإهتمام برئة الآخرين ، استغرقنا في الضحك ولا أزال اليوم أضحك من فكاهته وصراحته، وكلّما تذكرت الموقف، أضحك لكن الحزن يغلبني فقد خسر رئته في التهاب، وخسر حياته وهو شاب.
Comments