الله هو الذي خلقنا وأمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون، نحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين.
عندما كنّا صغارا، كان الأهل يستخدمون بعض الصور ليغرسوها في مخيلتنا لإخافتنا من بعض الأمور التي تضرّنا والأمثلة كثيرة، لكننا كبرنا وصغرت تلك الصور، فلم يعد لها تأثير، لكن عقولنا محشوّة بكثير من الصور التي لا دخل لأهلنا بغرسها، فمنّا من يظن أن الدين حديقة غنّاء وشجر، وبعضنا يحسبه شباكا وحفرا، بعضنا يهرب من الالتزام الديني كذبابة دخلت بين أشجار نسجت عليها العناكب شباكها، لا تكاد تبتعد عن شبكة حتى تلاقي شجرة أخرى تماثلها، تدور تبحث عن مخرج، فأوامر الدين - كما يرونها - كثيرة لا يتسع وقتهم لتأديتها، ونواهيه متنوعة لا يمكن التعايش معها بسعادة، فلذلك هم يستبدلون كثيرا من الالتفاف حول أوامر الدين ونواهيه باختراقها جميعا، والتحوّل من ذبابة تعلق بالشباك إلى زنبور - دبّور - يخترقها ولا يبالي.
لكن تصوّرنا للدين بشباك العنكبوت - رغم كل سماحته - ليس وليد الصدفة، بل هو مجهود جبار يرجع الجهد الاكبر فيه للشيطان، فبحكم خبرته القديمة بالبشر، فهو يعرف كيف يرسم تلك الصورة في عقولنا ليخرجنا من فئة من قد عمل «عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (التوبة: 102)، لنكون من الذين يقولون حين تتوفاهم الملائكة «رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين» (المنافقون: 10)، ولان الشيطان يعرف تماماً ما هو الفارق بينهما، لذلك غرس تلك الصورة التي في مخيلتنا لتكون أوامر الدين ونواهيه مثل شباك العنكبوت، وساهمت في تحوّلنا إلى زنابير تتعدى محميات الله من دون اكتراث.
ولأن الطريق الى الله واسع، فهو يسعنا بذنوبنا وتقصيرنا وزلاتنا وأهوائنا ووسوسة شياطيننا، نحملها معنا ونسير فيه مثقلين ــ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنا ــ ونحاول أن نتقدم، فالذي قد خلقنا هو ذاته الذي أمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون،، ولربما كان اختباره لنا بتضحيتنا له، فنحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين، فنحن نقول «صراط الذين أنعمت عليهم»، ولا نقول صراط الذي أنعمت عليه، والفارق أن الطرق للرحمن كثيرة، كما أن الذين أنعم الله عليهم كثر، مثل أبواب جنته واسعة ومختلفة، وليست بابا واحدا، بل الطرق اليه واسعة، ولها هامشان، هامش على اليمين، به تكون النوافل والسير فيها الى الله أسرع وأقرب الى مرضاته، وهامش يسار يسعنا إن أخطأنا وزللنا ووقعنا في الحرام، فنحن لم نخرج عن الطريق، لأننا لم نزل نسير إلى الله، وكل ما يلزمنا هو أن نعوّض هامشنا اليساري من هامشنا اليميني، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: «وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (هود: 114). قال الرجل: يا رسُول الله ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلِّهم.
فلا يلزمنا أن نكون ملائكة لنكون في الهامش اليميني، ولا يعني وطئنا للهامش اليساري أننا شياطين، ومن استطاع أن يلزم هامش اليمين، فإما بمعونة الله وهو ذو حظ عظيم، أو أنه أثقل على نفسه غافلاً أن الطريق إلى الله طويل.
والمؤمن لم يؤمر بما يشق عليه، بل أمر بما يستطيعه فقط، يقول صلى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه: «ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».. وقد أورد صحيح الجامع الصغير حديثاً حسناً يقول فيه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ صاحبَ الشمالِ - الملك الذي يكتب السيئات - ليرفعُ القلمَ ستّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئِ، فإن ندِم واستغفر اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدةٌ».
Commentaires