قبل أكثر من ٤٠ سنة، وفي بيتا المتواضع نشأت دون أن أجد ترفيه يقارن بترفيه اليوم، ولأن والدي - أطال الله في عمره - يؤمن أن النعم لا تدوم , وحين نكثر عليه الطلبات ، كان يقول لنا " اخشوشنوا" وكان يرى كثير من كماليات الحياة آن ذاك ليست ضرورية، وحين أصبحت رجلاً ، مشيت في ممرّ سوق حيّنا، وحين رفعت رأسي أبحث عن شيء من الحلويات أستبدل به نقودي، لم أرى سوى أرفف خاوية، وكأني أراها الآن أمامي، ممرٌ طويل خالي سوى من كرتون الباذنجان البصراوي، ولا أزال أتسائل لم رفعوه عالياً رغم أن أسفله خالي، و بالرغم من قلة الطعام آن ذاك لم يرغب أحد بشرائه، فحينها كنّا في غزو غاشم لبلدي الحبيب، وبعد شهور من الخوشنة علمت صدق نبيّنا صلى الله عليه وسلم وصدق أبي معه ، وأيقنت أن النعم زوّالة ، فلم يعد هناك الكثير من خيرات هذا البلد، لكنني قد بقيت حياً دون الحصول على كمالياتي ومنها الشيكولا، وعلمت بعدها أن الحياة بلا ترفيه وكماليّات ليست قبيحة كما كنت أتصوّر، لكنّ المحزن في حينه أنني كلما حاولت الحصول على قطعة من الشيكولا الأجنبية بائت محاولاتي بالفشل، وفي ظل الأيام العصيبة تلك، بعيداً عن الأمن و بعيداً عن الشيكولا، فتحت خزانةً في دارنا ، فوجدت ما أبحث عنه بعيدًا، وجدته بالقرب من حجرة نومي، وحين فتحتها تلألأت كراتين الشيكولا الفاخرة، وأتاني شعور وكأنني قد تهت في الصحراء وقبل أن يقتلني حرّ الشمس والجوع العطش وجدت مصباح علاء الدين لأطلب منه القصر والجواري، وحين سألت عن مصدره، عرفت أن نسيبنا - جزاه الله كل خير - قد جمعهم وغادر مشكوراً دون أن يخبرنا بهم.
وبعدها، جَزَرَتْ المصائب ، و أتانا مدُّ الرخاء ، وما بقي من الخوشنة سوى القليل ، فركبت الطائرة لأرى ما فاتني من بقاع الدنيا وأنظّف بقايا رواسب الخوشنة، وفي إحدى زياراتي لماليزيا، ذهبت لأرى حديقة الفراشات المضيئة، ويا لها من زيارة، إنه نهرٌ يشبه المستنقع، تجولنا في أنحائه بقاربٍ ضيق وفي جوًّ رطب نهشنا فيه الناموس نهشاً وكأنه لا يريد أن نستمتع برؤيا هذه الفراشات المضيئة ، وفي الظلام الدامس ، تزيّن النّهر بأضواء الفراشات ، كما تتزين شجرة عيد الميلاد ، وسحرنا بسحر الطبيعة ، فهذه مخلوقات مضيئة تتطاير وتتحرّك ، وتملأ هذا النهر ضوءاً ، هنا تجدها متجمعة ، وهناك تراها متفرّقة ، وهذه تقف بجانبك ، وتلك تتوهّج ثم تخنس ، وحين قرأت عنهم عرفت أنّهم ينقرضون ويتناقصون، لا لشيء سوى التّلوّث الضوئي ، وذلك بسبب المدنيّة ، فهناك الكثير من أضواء المدينة في الليل مما يجعل حياتهم صعبة .
واليوم وبعد مرور الكثير من السنوات السمان ، أتذكّر الأيام والليالي العجاف في ردهات أسواقنا ، وكلما نظرت إلى فتياتنا وشبابنا أولاد السنين السمان ، أراهم قد لوّنتهم الأموال ، وزينهم الثراء ، وحملتهم العافية ، أسأل نفسي هل من الممكن أن يروا صندوق الباذنجان البصراوي ؟هل من الممكن أن تزول النّعم ؟ هل قال لهم أبوهم "اخشوشنوا"؟ ، هل حكى لهم آبائهم عن الخوف والقتل والذل والجوع الذي قد عشناه ؟ هل أدركوا تقلّب الحياة ؟ وظللت حائراً في أسئلة عجزت عن الإجابة عليها ، فالحياة التي يعيشونها أرجوا أن تدوم ، لكن سنة الحياة التّغيير ، ولو دامت لغيرنا ما اتصلت إلينا ، وعدت وسألت نفسي هل سيقفون في المطابخ وتبقى أفنيتنا نظيفة إن عُدمنا الخدم ؟ أم سيكونون مثل فراشةٍ مضيئة أدركها الصباح ؟
Comments