top of page
بحث

كهف الذكريات



لقمة الحمّص بالطحينة التي أكلتها للتو فوق كرسي الطائرة، أرسلتني إلى كهف دخلته ذكرياتي لبياتها الشتوي منذ أربعة عقود.

في هذا الكهف، وجدت نفسي صغيراً أيقظني أهلي من نومي الثقيل، وفي شقتنا الصيفية الكائنة في حواري دمشق القديمة، وقفزت من فراشي العزيز حين سمعتهم يصيحون «مسبحة».. أخذت الخمس ليرات السورية واستللت طبقا خاليا وانطلقت لدكّان جارنا، هو رجل أحدودب ظهره وشاب شعره، نزلت درجتين لأصل إلى دكّانه، وقفت في غرفة بيع الحمّص بانتظار دوري، أرمق غرفة أخرى منخفضة السقف، تملؤها القدور الكبيرة، خمّنت حينها أنّه يوقد أسفل منها مساءً بعد أن يضع الحمّص الحب مع الماء، وفي الصباح يبيع الحمص بالطحينة.


أعطيته الطبق، وسألني عن المبلغ فوضعت فيه يديه الخمس ليرات، سكب من الحمّص أمامي في طاسةٍ عميقة وأضاف إليها طحينة السمسم ودّقها بالهاون لـ٥ دقائق، وبعد أن امتزجت جيدًا أضاف إليها عصير الليمون، ومدّ لي يد الهاون لآخذ بأصبعي لعقة، طلبت منه أن يضيف الطحينة، وتذوّقت، ثمّ طلبت أن يضيف الليمون وتذوّقت أعاد وكرر إلى أن أضاءت «براعم لساني» باللون الأخضر.


وجدت الجميع بانتظاري أو بمعنى أصدق، بانتظار طبق الحمّص ليقدّم مع الإفطار التقليدي لبلاد الشام، فطبق المسبحة يوضع في الوسط، يزيّنه جهة اليمين صحن شرائح الطماطم وجهة اليسار صحن الخيار وطبق يملؤه الخيار المخلل المعد منزلياً، وهذا الصحن البعيد هو صحن اللبنة الحامضة رشّ عليها النعناع المجفف وزينها الفلفل الأسود، وذلك الزيتون بالليمون، وهناااك المربّى.


كأس الشاي كثير السكر يفتتح سمفونية الإفطار الشهي، يناغم حموضة اللبنة ويلطّف تأثير الطحينة، أتردد على الحمّص في الغداء والعشاء واليوم التالي وبين الوجبات، حتى يتعبني الإسهال الشديد، فمعدتي ليست معدة لأكل هذا الطبق كل يوم!

قرأت كتاباً حديثاً للمؤلفة bee Wilson اسمه أوّل قضمة First Bite تقول فيه إنّ الطعام هو مخزن ذكرياتنا، والأشخاص المتضررون من فقد القدرة على التذوّق يشتكون أنّهم فقدوا ذكرياتهم التي هي جزء من هويتهم، تقول إحداهم «أعيدوا لي حياتي» فطبق طفولتها الذي تحبّه، تأكله لكنّه لا يستدعي لها أي ذكريات بسبب إصابتها، «وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها».


تذكر صاحبة الكتاب أن تفضيلنا الأطعمة المحببة يتكوّن في لقمتنا الأولى، وتذكر تجربة لأطفال أعمارهم بين السنة ونصف السنة والسنتين وكانت التجربة أن تجمع الأطفال وتعرض عليهم مجموعة كبيرة من الأطعمة، وبمراقبتهم لست سنين وجدت أن عافية الأطفال تتحسن بتركهم يختارون ما يشاؤون وذلك لفترة استمرت 6 سنوات، انتهت الدراسة إلى أن عقولنا (الأطفال) تقوم بإرسال رسائل سليمة، فحين تحتاج أجسادنا إلى البروتين سنشتهي الدجاج، وإذا احتاجنا إلى فيتامين معين فسنشتهي الأطعمة الغنية به، حتى نتعافى، ونعمه لن نعددها ولن نحصيها.

مشاهدة واحدة (١)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page