تحدثت في المقال السابق كيف كان الشارع يساهم في البناء التربوي ، وكيف تعقّدت العملية التربوية بزيادة مسؤولية الوالدين لبناء الجوانب الاجتماعية والأخلاقية وأصبحت رحلة التعليم هي رحلة الألف ميل ، وهذه الرحلة تبدأ بالمستوى الأول من التعلم في شهور الطفل الأولى ، ولربما وهو في بطن أمه ، فقد قام دكتور بتجربة مثيرة ، وهي بالغناء المتواصل أثناء حمل زوجته , وبعد شهرين من الولادة وفي حضور أصحابة غنّى لطفلة مجموعة من الأغاني وكان الطفل مندمجاً، وحين غنّى له إغنيته اللتي كان يرددها في آخر أشهر الحمل ، توقف الطفل عن الإندماج ، وتوسعت حدقت عينيه وكأنه يتذكّر ، أو يسأل نفسه أين سمعت هذه الأغنية ؟
ومن تلك الفترة تبدأ العملية التعليمية ، وفي أشهر الطفل الأولي يقوم بمحاولة (حفظ) أومحاكاة ما نقول و نفعل ، ويكون هذا الطفل قد تجاوز المستوى الأول للتعليم ، وحين نحاول جعله يفهم ما يدور حوله ، ونشرح له كيف تعمل الأشياء التي يشاهدها من هواتف أو أجهزة وخلافه ، فإن الطفل يرقى الى المستوى الثاني من التعلّم ( الفهم ) ، وإذا ما نجح في تطبيق فهمه السابق في التعامل مع أمر جديد كأن يتحكم في التلفاز بالمقارنه بما تعلّم سابقاً ودون أن يعلّمه أحد ، فتأكد أنه قد ارتقى المستوى الثالث ( التطبيق ) ، وبعد أن يكبر هذا الصغير ، و يتعلم ( التحليل ) ، وحين يستخدم ما يشاهده للوصول الى معلومات مخفية عنه بواسطة المقارنة والتدقيق ، سيرى الطفل أن والده قد تغيرت تصرفاته تجاهه ، فيكتشف أنه متضايق ، فإن هذه المرحلة دلالة على ارتقاء الهرم المعرفي للأبناء ، لكنه وبكل تأكيد فإن هذا الطفل سيكون قادراً على( الإبداع و التقييم ) وهما المستويين المتبقيين من هرم بولم ( ١٩١٣ـ-١٩٩٩) .
لا شك أنه يصعب على الطفل فهم أمور الحياة بمفرده ، ولذا يكون دورنا هو " تبسيطها لأفهامهم " ، وهذا يتطلب اقتناص الأوقات المناسبة للتعليم ، ولتحقيق التقدم يجب أن تكون الأوقات التعليمية مناسبة لهم وليست لنا، فحين نعلمهم فضل الأمانه ( الفهم ) ، فقد يتأخرون في رد مال غيرهم ، فهنا نقول : إن الامانة درجات ( التطبيق ) ، و أقل هذه الدرجات أن ترجع المال المتبقي لغيرك بعد أيام ، فتبقى أنت أمين ولكنك في أسفل منازل الأمانه، واما أعلاها فهو أن لا تحدث نفسك بهذا المال حين ترجعه بأسرع وقت .
وحين يرى الأبناء تلك المنازل العالية من الأخلاق ، فإن الصعود لها يكون بدافعٍ وعزيمةٍ أقوى ، وبكل تأكيد ، فإنهم سيرون عناء الحرص على الامانة وأعلى مقاماتها هو مضيعة جهد لأننا لم نبينها لهم ، ويمتد دورنا إلى اكتشاف أخطائهم ، فحين يعرج ابننا ، فإن التركيز وتقوية ساقه السليمة لن يصنعه عدّاء ، فبعد اكتشاف الخطأ ، يتوجب التركيز على خطأه ، ومثال ذلك أن نرى منهم خوفاً من مواجهة من هم في أعمارهم حين يكون الحق معهم ، فينصرفون عنه خوفا من المواجهة ، فنراقبهم ، ونشجهم على أن لا يتنازلوا عن حقوقهم حتى يواجهوا ضعفهم وينتصروا عليه ، لنجعل منهم أقوياء بلا ضعف ، تمهيداً ليومٍ تطرحهم فيه الليالي والأيام أرضاً ، وبلا أب أو أم يسندهم ، فإن لم نصلح لهم عرجتهم ، أدركتهم صروف الزمان ثم افترستهم لأن من كان يجب عليه أن يصلح عرجتهم قد عضد لهم زمناً ، ثم غاب عنهم .
Comments