top of page
بحث

خفايا التحايا



* أعاصير المشاعر و هيمنة عقولنا وطبيعتنا البشرية قد تجعل السلام على الغير مهمّة شاقة ، ورفع اليد بالتحية معضلة


يعرفوني بالثقة العالية، لكني شكاك حتى النخاع، وشكي يبدأ في أفكاري، ففحصي لأفكاري فكرة تلو الفكرة مستمر بلا كلل حتى أطمئن أن أفكاري حقائق صلبة ، وليست تصورات التي أحرص أن أدفنها وهي حية، ومن تلك الأفكار ما يصاحب إلقاء التحية، فحين أحيي أصحابي وأقاربي، أشعر بسعادة لمبادرتي لهم، بينما أشعر بثقلٍ في نفسي مع بعضهم حين أرفع يدي لأحيي من لا تربطني بهم علاقة شخصية أحياناً وأحسُّ بريحٍ عاتية تجتاح مشاعري وتقلّب سكون أفكاري ، وطالما سألت نفسي لماذا يصبح السلام ثقيلاً علي رغم محبتي للسلام، ولم أكن أجد الإجابة إلى وقت قريب، حتى اطلعت على تفسير علمي ساهم في فهمي للسبب، فلأننا نجهل حقيقة مشاعرنا مع من لا نعرفهم جيداً، لانجد سوى أسلوبهم الذي حيّونا به للاسترشاد على حقيقة مشاعرهم ، ولذا نقوم بتقليد طريقتهم بالسلام علينا ونحاكي مشاعرهم تجاهنا ، فنحن في حالة غموض المشاعر نستعير طريقتهم التي يحييونا بها ،و نتقمّص مشاعرهم التي يشعرون بها ، ولربّما كان سلامهم مشوباً بابتسامات المجاملة (الصفراء)، ولربّما كان التلويح باليد يظهر منه ثقلٌ في النفس ، ولذا قد نستحضر تلك المشاعر بطريقة تسيطر عليها عقولنا اللا إرادية ، أو لربّما شقنا البهيمي .


فالبهائم لا تحيي بعضها البعض ، ولو راقبنا لوجدنا أن البهائم تسيطر عليها مشاعر العدائية حين تلاقي أبناء جنسها ، ولو أخذنا دجاجة غريبة وأدخلناها على الدجاج، لوجدناهم يتناوبون على نقرها، وعدت لنفسي أسألها: كم أحتاج من الوقت لأتخلّص من بعض صفاتي البهيمية لأصل إلى إلقاء التحية على من عرفت و من لم أعرف ؟


ورغم أن تلك المشاعر والأفكار لا تزال تزورني، إلا أن مداهماتي للقضاء عليها هي حملة شرسة ، أجبر فيها نفسي البدء بالتحية وتقديم الإبتسامة ، إلا أنّ البعض يواضب على عدم رد تحيتي له ، فأحرص أن أدفن في مقبرة أفكاري تلك الأفكار التي تزورني حين عدم الرد ، وأجبر نفسي على أن لا أفكّر بأسبابهم التي منعتهم من الرد على تحيتي ، فالكل مشغول والكل معذور كما يقول أبي دائماً ، إلا إني بذات الوقت أمتنع عن السلام عليهم رحمة لهم ، وإعفاءً لهم من مشقة ردهم لسلامٍ ثقيل على أنفسهم .


لكنني أشتاق للشقاوة السابقة ولأمرٍ في نفسي أخفيه ، فأتأخر بالبدء بإلقاء التحية علي من أحييّهم عادة ، يدفعني الفضول لمعرفة كيف سيكون سلامهم علي ، وأرقبهم من خلف نظارتي الداكنة ، لأرى من لازمت البدء بالسلام عليه لسنين طويلة ، تصيبه الحمّى من رفع يده مبتدئاً ، ولربّما رفعها ،لكنه يشيح بوجهه في الجانب الآخر ، كي لا أرى علامات الامتعاض على وجهه ، فكأنه حين يرفع يده بالتحية ، يرفعها مستحضراً خسارته الكبيرة بالسلام علي ، أو مستشعراً لكرامته التي أهدرت حين يتدنّس مقامه السامي بالنزول إلي ليبادرني التحية ، هنا أهمس في نفسي" يا مسكين ، والله لو علمت تكلّفك لبادرتك " .


لكن دمث الخلق منهم يبادرني، تسبق ضحكته تحيته ، ويعتريني الخجل من شقاوتي ، و تعاتبني نفسي بعدها وأتذكّر أن تلك الشقاوة جعلتهم خيراً مني ، فرغم كل مابي من شكوك ، إلا أنني موقن أن خيرنا هو الذي يبدأ بالسلام .

مشاهدة واحدة (١)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page